الحوار بين يانغ ليان وأدونيس

السؤال 1: تربط بين الشاعرين يانغ ليان وأدونيس تجارب متشابهة إلى حد ما، حيث أن كليكما يعيش في سفر دائم بين الوطن وأوربا، وبين الشرق والغرب. فإلى أي مدى تؤثر إقامتكما في أوربا في إبداعكم الشعري؟

يانغ ليان: انتهيت قريبا من كتابة مقالة بعنوان: "كن الآخر اختياريا". يرتبط هذا العنوان بمسألة هامة، فأي شيء في عالمنا ليس "الآخر" ؟ من منا لا يعيش بين "الآخر" في مستوياته العديدة؟ بالنسبة إلينا كالصينيين، الغرب هو الآخر بطبيعة الحال، ولكن، أليست الثقافة الصينية القديمة "الآخر" أيضا؟ من منا يقدر أن يزعم أنه صيني أصيل؟ بل إن اللغة الصينية نفسها، أصبحت لغة أحدث من اللغة الإنجليزية في أمريكا نتيجة لكثرة المفردات والتعابير الدخيلة عليها، إلى حد أني أسميها على سبيل المزاح "أحدث لغة قديمة". هنا يكمن مأزقنا كما تكمن طاقتنا. ولأن الآخر يحيط بنا من كل جانب فلا يمكن أن نتبع لأي طرف بل علينا أن يخلق طريقا خاصا بنا. وإن صح أنني أعيش في غربة عن الصين، فإني لم أغترب أبدا عن اللغة الصينية. وموقفي من هذه اللغة هو أن أعيش في داخلها وخارجها في آن واحد. أقول في داخلها لأني متمسك دائما بالجوهر النشط لهذه الثقافة، وأقول في خارجها لأن المسافة تتيح لي أن أنظر إليها بهدوء وموضوعية. وليست كلمات أوربا والوطن والشرق والغرب إلا أسماء ذات دلالات سياحية. أن أكون الآخر اختياريا، يعني أن أقوم بتشريح ثقافتي بهدوء وأقاوم النفاق والتزييف في هذا العالم، ويعني أن أفكر بشكل مستقل. وفي الإبداع الشعري نواجه تحديا دقيقا- وهو كيف نحافظ على القيمة الأدبية مع رفض النظر التبسيطي للشعر أو النظر إليه بوصفه آداة. وهذا يعني، بالنسبة لي ولأدونيس، أن نرفض بيع أنفسنا في سوق المبتذلات، وأن نعود إلى طبيعة الاعتزاز الشعري. وهنا يسعدني جدا أن أتعرف على أدونيس لأنه بمثابة سلف روحي لي.

أدونيس: ربما رأى الصديق الكبير، يانغ ليان، في إقامته في أوروبا، اشياء أخرى ، غير تلك التي أراها في إقامتي. كلٌّ منّا يجيء إلى أوروبا من تاريخ خاصّ، وذاكرة خاصّة، وعلاقات خاصّة.

"الآخر" واحد من حيث المبدأ، بالنسبة إلى كلّ منّا. لكن هذا الآخر متعدد، بالنسبة إلى "انفعال" كلّ منّا، بثقافته، وحضوره في العالم، ورؤيته إلى الحياة والإنسان.

بالنسبة إليّ، تمثل لي إقامتي في باريس مناخاً ثقافيّاً، أفتقده في بلادي: مناخَ معرفةٍ، واستبصار، وانفتاح. مناخ "حريّة حرّة"، كما يعبّر رامبو. هكذا أشعر كأنّي قريب إلى "قلب" العالم، إن لم أكن أتحرّك في داخله. وفي هذا ما يضعني باستمرار أمام تحدٍّ يقظ مزدوج : للغتي العربية إزاء مشكلات الإنسان، ولإبداعيّتي ورؤيتي، إزاء تاريخنا العربي، وإزاء حاضرنا العربيّ. في معزل كامل عن المفهومين الشائعين: "شرق" / "غرب"، اللذين لا ينحصران في الدلالة السياحية، كما يشير بحقّ، يانغ ليان، وإنما يتخطيانها كذلك إلى الدلالة العسكرية والاقتصادية. لكن، إبداعيّاً، لا "شرق" ولا "غرب"، بل "كونٌ" واحدٌ، وإنسانٌ واحد.

وأتخيّل، إذاً، أنني لولا هذه " الإقامة" في الغرب لما كنت كتبت ما كتبته، أو لكنت ، على الأقلّ، كتبته بشكل آخر.

ولئن كانت معرفة الغرب، في كتبه ونظرياته، تغني "ثقافة" الإنسان غير الغربيّ، فإنّ معرفته في حياته وممارساته، تدخل في تجربته الحيّة. وفي هذه "التجربة" ما يتيح الدخول إلى " مجهول" الغرب، بطريقة لايتيحها مجرّد "الثقافة" فهي طريقة أعمق تواصلاً، وأكثر غنى ودقة.

السؤال 2: كلاكما يعيش في البيئة الثقافية واللغوية الأوربية، فهل دخلت عناصر لغوية أوربية في إبداعكما الشعري؟ وهل في شعركما توتر بين اللغة الأم واللغات الأوربية؟ وهل يجعل الفارق بين المخيّلات والصور الشرقية والغربية إبداعكما الشعري أكثر فرادة؟

يانغ ليان: بالنسبة لي، لا تعني أوربا اللغة فحسب، بل تعني ثقافة تجدد نفسها وتتحول باستمرار. وهي تتيح لي كشاعر صيني فرصة نادرة لكي أقارن بينها وبين ثقافتنا الصينية. وأحب هذا الإحساس بالمسافة الذي يثير في نفسي قوة الاقتراب لا قوة الابتعاد. وإذا قرأتَ ديواني الأخير الذي تُرجم إلى الإنجليزية، استطعت أن تقول إن الأشعار فيه تدور حول لندن، ولكن أهم من ذلك أنها أشعار تعبر عن ملاحظاتي وأحاسيسي وتأملاتي وأسلوبي في التعبير. فصورة الوزّ البري في شعري تربط بين الشعر الصيني القديم والشعر الصيني الحديث والتراث الشعري الإنجليزي والأوربي، ولكنها في الوقت نفسه تختلف عن الصور في هذه الأشعار كلها، إذ أنها صورة مبتكرة على يدي، صورة هجينة أضفت على الصور الأصلية جمالا خاصا.

وليست المخيّلات في لغتنا وحدها هي الكنز الثمين، بل إن خصائص لغتنا الأم هي كنز كبير أيضا. ولا شك أن هذه الخصائص أثرت في إبداعي الشعري وجعلت تغلغلي في دائرة التاريخ أمرا حتميا. وأظن أن نفس الشيء ينطبق على أدونيس، فكما أعرف أن الفعل في اللغة العربية يشير في حد ذاته إلى الفاعل، أليست هذه اللغة مخلوقة لكي يكتب أدونيس عن "ذاته"؟ لا شك أن هناك علاقة حتمية بين تنقله داخل اللغتين والثقافتين العربية والفرنسية وبين إنجازاته الشعرية.

أدونيس: لم تدخل إلى كتابتي عناصر لغوية أوروبية، بالمعنى الحصري لهذه العبارة، وإنما دخلت عناصر تركيبية شعريّة. وفي هذا ما رسّخ يقيني الشعريّ العربيّ أنّ لغة الشعر العالية لا تنفصل عن لغة الفكر العالية، أنّ الشعر العظيم شكلٌ آخر من الفكر، وأنّ الفكر العظيم شكلٌ آخر من الشعر.

وكشفت لي الخبرة والممارسة، خصوصاً في ميدان الترجمة الشعريّة، خصوصية اللغة العربية. فهي، شعريّاً، لغة مجاز ومخيّلة، مقارنةً مع اللغة الفرنسية التي هي لغة منطقٍ وتعقّل. لهذا كان عليّ دائماً أن أغريَ من يترجمني إليها، بأن يتجرّأ عليها ويرتفع بها إلى مقام المجاز والمخيّلة، أي إلى أن يشحنها بشيء من "طاقة الجنون".

يمكن أن يأتلف البشر، شرقاً وغرباً، في ميدان الأفكار. الاختلاف هو في اللغة. والهوية هي في الاختلاف. هل يعني ذلك أننا لا نترجم، لا نقدر أن نترجم الهوية، إلاّ في بنيتها اللغوية الظاهرة؟ لكن تلك مسالةٌ أخرى. وهي بالغة التعقيد.

السؤال 3: هل لكما اتصال واسع مع الأوساط الأدبية الرئيسية في بريطانيا أو فرنسا؟ وما رأيكما في الواقع الشعري الحالي في هذين البلدين؟

يانغ ليان: أنا لا أتصل إلا بالشعراء الذين أحبّهم سواء في بريطانيا أو في أي مكان في العالم. قد نشرت حتى الآن 13 ديوانا باللغة الإنجليزية، وأتبادل على أساسها مع الشعراء النشيطين في بريطانيا اليوم، أذكر منهم William N Herbert،Pascale Petit ، Robert Minhinnick، Fiona Sampson ، Polly Clark، Don Paterson إلخ، وهي تبادلات روحية تغوص في العمق الشعري. وتعاونت مع هؤلاء الشعراء الذين لا يعرفون شيئا عن اللغة الصينية في ترجمة بعض قصائدي إلى الإنجليزية. وفي رأيي أن عملية الترجمة التي نتناقش فيها مسائل لغوية وثقافية وحياتية وتاريخية هي أروع من الترجمة نفسها. إذا شئت أن تعرف شاعرا أجنبيا، فليس هناك أفضل سبيل إليه من ترجمة بعض قصائده إلى لغتك الأم. لذا، أحببت أن أترجم أشعارهم بين حين وآخر إلى اللغة الصينية لكي أعرف واقع الشعر الإنجليزي. هل سمعت عن مهرجان جبل هوانغ شان الشعري في الصين؟ إنه مهرجان مكرس للتبادل الشعري بين الشعر الصيني وشعر اللغة الإنجليزية.

وفي هذا الصدد، عليّ أن أعترف أيضا أن الشعر الإنجليزي المعاصر لا يمتّعني بما فيه الكفاية إذا قورن بشعر ييتس وأليوت وعزرا باوند، وباختصار، لم أجد في هذا الشعر اليوم أعمالا عظيمة بامتياز، إنما أجد فيه عددا لا بأس به من الروائع الصغيرة. والسبب لا يرجع إلى الشعر نفسه بل يرجع إلى الثقافة والفكر. إن عصرنا يعاني من الأزمة الفكرية التي هي أخطر بكثير من الأزمة الاقتصادية، ولكن الشعراء الغربيين لا يشعرون بآلام ومعاناة شديدة تجاه هذه الأزمة. إذا كانت الحروب الدموية والدكتاتوريات المكروهة والسلطات الدينية الظالمة تشكل كوارث منظورة، فإن مظاهر النفعية والنفاق التي تسود عالمنا في أعقاب الحرب الباردة لهي بمثابة انفلونزا خبيثة أصابت كل واحد منا بالوهن والعجز. ما قيمة الأدب في العصر الجديد؟ هل هو مجرد زخرفة تافهة تزين هذا العالم التافه؟ يبدو أن هذا التساؤل مزعجا ومقلقا في الغرب "الصحيح سياسيا والغني فكريا". وباختصار، إن المسألة هي مسألة الإنسان قبل أن تكون مسألة الشعر.

أدونيس: لا أقول إنني إعرف حقّاً الشعر الإنكليزيّ. ذلك أنني لم أقرأه إلاّ مترجَماً إلى الفرنسية. لكن أقول إنني أعرف الشعر الفرنسيّ خصوصاً في ذرواته. وهو شعرٌ أقدّره كثيراً. وقد أفدت منه وأفيد باستمرار.

أمّا الشعر الذي يُكتَب اليوم، فهو متعدد الاتجاهات. بعضه وصفيّ سَرْديّ يوميّ متأثّر باللغة الشعرية الأميركية. ولا ارى فيه ما يجذبني، خصوصاً أنه نوع من إعادة لإنتاج الواقع.

وبعضه عقلنةٌ فنّيّة لا أرى فيه كذلك ما يجذبني. وبعضه أخيراً يعود إلى شعرية الأمكنة والترحّل، وإذاً إلى المخيّلة، وإلى الشفويّة، وإلى غنائية الجسد مقرونةً بحضوره العاشق. وفي هذا الشعر ما يثير اهتمامي وإعجابي.

السؤال 4: يسعى أدونيس دائما إلى إعلاء شأن العقلانية والديمقراطية، ويقف موقفا نقديا عنيفا من التبعية والجمود في الثقافة العربية. ويشتهر يانغ ليان أيضا بموقفه التنويري الثابت. في عصر العولمة هذا، وخاصة بعد أحداث 11 أيلول، أصبح انتقاد العالم العربي خطابا سائدا في الغرب، ولكني لاحظت في أعمالكما انتقادا مزدوجا: انتقادا للجمود والتخلف في ثقافة اللغة الأم من ناحية وانتقادا للهيمنة الثقافية الغربية من ناحية أخرى. فما هي الدوافع وراء هذا الانتقاد المزدوج؟ وكيف تتحقق الموضوعية والتوازن في هذا الانتقاد؟

يانغ ليان: إن التراث الذي لا يقوم على الإبداع الفردي لا يحق أن يسمى تراثا، إنما هو ماض طويل على الأكثر. تنبع طاقة الأدب الصيني الحديث من المساءلة العميقة التي مارسها الأفراد على التراث. إن عمق هذه المساءلة الداخلية هو الذي مكننا من فهم المبدعين الخلاقين في ثقافات أخرى. لذا، أقدر أدونيس عاليا، خاصة وأن تغيير الهيمنة الدينية التي ينتفدها هو أصعب بكثير من تغيير السياسات التي قد تزول في يوم ما. أن يكون الإنسان الآخر اختياريا يعني بضرورة أن يبقى وحيدا: ففي الداخل، إنه يزلزل الأسس التي تبنى عليها السلطة والأنظمة، وفي الوقت نفسه لن ينساق للانفعالات القومية أو الوطنية، أما في الخارج، فهو يقاوم كل أنواع التبسيط، بدء من الاستناد إلى الخطاب الأيديولوجي لتقييم الأمر، إلى التعالي العقائدي أو الثقافي. علينا أن نحافظ على صرامة النقد المزدوج. في عالمنا اليوم لم يعد لخطابات الحرب الباردة رواج كبير، ولكن نُصبت فيه مرآة المصالح البحتة، ولم يعد هناك صراع الحضارات بعد 11 أيلول، إذ اختفت الصراعات واختفت معها الثقافات. هل هناك عالمان حقا؟ خُيّل لي أنه يبقى أمامنا عالم واحد فقط: عالم المال الذي يقدر أن يشتري كل شيء. إننا نعيش الآن في عصر ينفصل فيه القول والمعنى، حيث نقدر أن نقول كل شيء ولا نعني أي شيء. إنها ليست مسألة صينية أو عربية، بل مأزق إنساني شامل. ما العمل؟ إنني كشاعر سأواجه ذلك متمسكا بوعي جمالي صادق دون الخضوع لأية إرادة رسمية أو مقولة شائعة، وأستخرخ من هذا الوعي مقياسَ حكمي على كل أمر وقضية. علينا أن نواجه العولمة الأنانية والعبثية بالعولمة الشعرية والفكرية. وتذكرت أن لأدونيس كتابا عظيما "الثابت والمتحول"، حيث أعاد فيه النظرة إلى الثقافة العربية وأضفى على مقومات هذه الثقافة أفكارا جديدة، أفكارا تشكل الخلفية العميقة لشعره أيضا. مادمنا متمسكين بالوعي الجمالي الشعري فلن يضيع التراث وسيكون الشعر هو المستفيد الأخير.

أدونيس: أوافق تماماً على ما يقوله يانغ ليان عن التراث، وعن العلاقة بينه وبين الإبداع. وهذا النقد المزدوج ضرورة مزدوجة تفرضها علاقة الذات بتاريخها، من جهة، وعلاقتها بالاخر، من جهة ثانية.

الميل الغالب في الثقافة العربية هو النظر إلى التراث بوصفه ميراثاً، ينتقل بالوراثة من السابق إلى اللاحق، وهو إذاً هُويّة. كأنّ الهويّة هنا، جاهزةٌ سلفاً، يأخذها " الأبناء " مما أنجزه " الآباء ".

هذا فهمٌ بدائيٌّ ساذجٌ لمعنى التراث الإبداعيّ، ولمعنى الهويّة. كلّ تراث خلاّق هو، أولاً، مستقبل، أو هو بداية الحاضر. والهويّة، إذاً، ليست "إرثاً" أو "ماضياً"، إلاّ في المستوى البدائيّ، مستوى الغريزة. أمّا في المستوى الإبداعيّ ـ الإنسانيّ الذي يميّز الإنسان عن الكائنات الأخرى، فالهويّة إبداعٌ متواصل. والإنسان يبتكر هويّته فيما يبتكر أفكاره وأعماله.

هكذا ينبغي أن يكون الماضي ـ التراث، بالنسبة إلى المبدع، موضوعَ مساءلة ونقد، كما يقول يانغ ليان، لا موضوعَ توارُثٍ، أو حفظ وتكرار.

وغالباً، لا تنسجم هذه النظرة مع ثقافة المؤسسات والسلطات. وربما كانت موضع انشقاق في النظر، كما هي، في المجتمع العربي ـ الإسلاميّ، وذلك بسبب من هيمنة النظرات الدينية وشبه الدينية على الثقافة والسياسة معاً.

والإبداع هنا يكون مغامرةً، ويواجه كثيراً من الصعوبات إن لم أقل الأخطار.

والنقد هنا ضرورة كيانية إلى جانب الإبداع. علماً أنّ الإبداع في ذاته هو الشكل الأعلى من أشكال النقد.

هذا عن نقد الذات.

أمّا عن نقد " الآخر" ـ فإنه تكملةٌ ضروريّةٌ لنقد الذات. خصوصاً أنّ هذا "الآخر" في وجهه السياسيّ ـ العسكريّ ـ الاقتصاديّ، خصوصاً، هو غالباً إلى جانب المؤسسات والسلطات، ضدّ الذات. أي أنّه لا "يفكّر" ولا "يعمل" إلاّ وفقاً لخططٍ لا تقف عند حدود حَجْب الذات، وإنما تتخطّاها إلى تمويهها أو تشويهها أو تَدْمير كَيْنونتها.

السؤال 5: يمتاز كل من الصين والعالم العربي بتاريخ عريق وحضارة باهرة. إنكما كشاعرين تنتميان إلى ثقافة اللغة الأم انتماء نقديا مع الحرص على إبقاء مسافة بينها وبينكما. هل ترضيكما هذه الحالة؟ أم تتحملانها عن كراهية؟

يانغ ليان: سبق أن قلت إني لم أغترب أبدا عن اللغة الصينية. ولكن ما هي اللغة الصينية؟ هل ندرك أسرار هذه اللغة لأننا نتكلمها كل يوم؟ هل ندرك سلبياتها وإيجابياتها ومغزاها في تنوير الفكر الإنساني؟ ظلت كثير من الكتابات الصينية القديمة "مدفونة" دون أن نعرف قيمتها الحقيقية، الأمر الذي أدى إلى الفقر في أدبنا المعاصر. مهما كان سبب خروجي من بلادي، فإني أشعر الآن كبحار يرصد موقع سفينته فوق السارية، أحدد موقع السفينة من خلال مناظر الجزر والتيارات والرياح. فانتبه أنني على هذه السفينة. أخلق الحوار مع نفسي من الداخل ومن الخارج في آن واحد. لذا، أرتضي بحالتي الآن، لأنها ليست غربة أبدا، فالمسافة تساعدني على الغوص في ما هو أعمق. إذا سألتني: "أين لي هذه التجربة إن لم أكن موجودا في خارج بلادي؟" فجوابي هو: اكشف في داخلك ذلك البحر.

أدونيس: من جهتي، ألاقي صعوباتٍ كثيرة. لا من السلطة السياسية وحدها، ولا من السلطة الدينية، وحدها. بل ايضاً من سلطاتٍ أخرى، في بعض وسائل الإعلام العربي. من "السلطات" التي يتمتّع بها بعضٌ من كتّابها. غير أنّ لي أصدقاء كثيرين. وأجد في صداقتهم قوةً عظيمة أتسلّح بها، متابِعاً، متمسِّكاً بكلّ ما أراه في هذا المجال، حقّاً لي، وواجباً عليّ.

السؤال 6: أعرف أن الأستاذ أدونيس صديق لأدوارد سعيد، وقلت إن أدوارد أساء استخدام مفهوم "الاستشراق" بعض الشيء لأنه لم يتعمق في فهم الثقافة العربية. ما قيمة نظرية ما بعد الاستعمار في عصر العولمة الذي نعيشه؟ وهل لها آثار سلبية في العالم العربي؟ ولا شك أن يانغ ليان يعرف أن هذه النظرية لها تأثير واسع في الأوساط الثقافية الصينية، فكيف تقيّم قبول المثقفين الصينيين لها؟

يانغ ليان: أترك أدونيس يجيب أولا.

أدونيس: لم أكن دائماً متّفقاً مع الصديق الكبير إدوار سعيد، في نظرية "الاستشراق"، لالتباسها، في ما يتعلّق بطابعها التعميميّ، من جهة، ولأنني من جهة ثانية كنت أرى، أحياناً في تحليلاته البارعة، مسبَّقاً سياسيّاً يحتاج إلى كثير من المناقشة والاستقصاء.

مع ذلك أحدث صدمةً كبيرة خلقت بدورها ضرورةً ملحّةً، هي إعادة النظر في " الاستشراق " جذريّاً وعلى نحوٍ شامل.

يانغ ليان: أحب أن أضيف ما يلي: من حيث الأساس أرفض تعميم الشرق والغرب في مناقشتنا للمشاكل، لأنه نوع آخر من التبسيط. فالفردية والاستقلالية من القيم النبيلة في كل العالم، ومن الشروط الأساسية لانبعاث أي ثقافة. ولا تنسى كم كان كونفوشيوس ولاو تسي وأمثالهما يتمسكون بذواتهم! أوافق أدونيس في دعوته إلى فهم عميق لجذور ثقافاتنا الشرقية، لأننا سنجد فيها قوة محركة داخلية لتحقيق التحول الثقافي. إن إعجاب المثقفين الصينيين بنظرية ما بعد الاستعمار كإعجابهم بكل مقولة سائدة جديدة، يكشف في جوهره عن عدم الثقة بالنفس وفقدان قدرة الحكم. هل الصين اليوم هي شرقية أم غربية؟ أم أنها لا شرقية ولا غربية؟ أم أنها مزيج من سلبيات الشرق والغرب؟ وفي رأيي، إن في داخل كل إنسان ما هو شرقي وما هو غربي، لأنه يمثل حالة من المركب الثقافي. هل هذا المركب هو إيجابي وصالح؟ هذه هي المسألة.

السؤال 7: ما آثار النقد الأدبي ما بعد الحداثة في الإبداع الأدبي؟

يانغ ليان: تقسيم الأزمنة إلى الحداثة وما بعد الحداثة يعني اتخاذ الثقافة الغربية إحداثيا. ولكن المسألة هي أن الأدب سيقى هو هو بعد كل الأزمنة. وستبقى هناك علاقة عميقة بين حياة الإنسان والأدب. وستظل مقولة "الأدب يعني الإنسانية" صحيحة إلى الأبد. ما أعارضه في النظرية ما بعد الحداثة هو رفضها للعمق، مما أفسد جوهر الأدب وجعله أقرب إلى ألعاب عبثية. يستطيع الكاتب أن يتلاعب بالسياسة والفن والسوق فيصبح غنيا أو يحقق شهرة، ولكن أعماله ستكشف عن قيمته الحقيقية. لا يمكنه أن يخدع ذوي البصيرة بتفاهة المعنى وابتذال الشكل. إن التحول الثقافي الذي تمر به الصين الآن هو شيء ملحمي ويتغلغل في كل شريان حياتنا. وليست لتساؤلاتنا أجوبة جاهزة، بل علينا أن نأخذ من كل الثقافات – صينية كانت أم أجنبية، قديمة كانت أم حديثة، موارد فكرية وجمالية تفيدنا. ولكن يجب ألا يكون هذا الأخذ بعيدا عن العمق، عليه أن يغوص في العمق.

أدونيس: أتّفق هنا مع ما يقوله يانغ ليان عن نظرية أو نظريّات ما بعد الحداثة، ملحّاً مثله على أنّ الإبداع لا يقوّم بالمرحلة، سواء ٌ سمّيت " حداثة " أو " ما بعد الحداثة". فكلتاهما تقوَّمان بالإبداع، وليس العكس.

لا يُؤطّر الإبداع إلاّ بإبداعيّته ذاتها: بكونه مفتوحاً، ولا يُستنفَد. الإبداع إبداعٌ ولا يوصَف بالحداثة أو ما بعد الحداثة، إلا من حيث "زمنيّته". والإبداع يتخطّى "الزمن" الذي نشأ فيه. الحداثة وما بعد الحداثة صفتان لاحقتان، وليستا قيمةً في ذاتهما. هناك أدبٌ سُمّي "حديثاً" لا قيمة له. وهناك أدبٌ يُكتَب اليوم باسم ما بعد الحداثة، لا قيمة له هو كذلك. هذا التصنيف النقديّ التبسيطيّ، لا يعني أكثر من كونه تبسيطاً. فقيمة العمل الفنّي ليست، حصراً، في كونه يمثل "الحداثة" أو "ما بعد الحداثة"، بل في كونه إبداعاً متميّزاً. الشعر انبثاق. وفي هذا الانبثاق تتلاقى الإبداعات كلها، في مختلف العصور، وفيما وراءها، في أوركسترا كونية أو في محيط من الانبثاقات، المختلفة المؤتلفة.

السؤال 8: هل لا تزال للمبادئ الإنسانية والفكر التنويري قيمة في عصرنا الاستهلاكي؟

يانغ ليان: أي عصر ليس عصرا استهلاكيا؟ كأنك تسأل أين لا يوجد قهر للاستهلاك الفكري؟ ينبغي أن يكون السؤال: كيف تواجه ذلك القهر؟ أرى في أدونيس نموذج المثقف الكلاسيكي الذي يحافظ على رصانة التفكير وجرأة القول مهما كان غموض ظروفه. وكذلك السيدة Susan Sontag، التي قامت بمساءلة النفس بجرأة بعد أحداث 11 أيلول إلى حد أنها أُتهمت بأنها عدو أمريكا. إن عصرنا الاستهلاكي يختلف عن غيره من العصور لأنه لا يستهلك من الناحية المادية فحسب، بل يستهلك معنوية الإنسان، فيحوله إلى شيء. إحدى أبرز علامات الأزمة الفكرية هي أن "لا فكر" أصبح العملة الصعبة الوحيدة في العالم. في هذا العصر وهذه الظروف يبقى الشاعر ذلك السائل. أما الشعر، فهو سيظل مترادفا للإنسانية والتنوير. يحمل آخر كتابي عنوان: "برج يبنى نحو الأسفل"، لماذا "نحو الأسفل"؟ لأن الشعر لا يبنى على الأرضية الجاهزة بل يخلق تلك الأرضية. وليس الشعر أصل الثقافة فحسب بل هو أصل الإنسانية أيضا. بذلك، نستطيع أن نجد نقطة الارتكاز للمقاومة الجمالية الفردية، ونعلن: "لا فردوس، ولكن ينبغي مقاومة كل جهنم." هل لا يزال لهذه الروح قيمة؟ ينبغي أن نطرح سؤالا عكسيا: هل للإنسان قيمة بدون هذه الروح؟

أدونيس: الغرق في الاستهلاك بين عصرنا والعصور السابقة هو فرق في الدرجة لا في النوع. فدائماً كان الاستهلاك شهوةً قائمةً وملحّةً.

في الدرجة: لأنّ تطوّر التقنية والآلة في عصرنا أدّى إلى أن يستهلك الإنسان نفسه، وهو المستهلك.

المستهلَك اليوم، سيدٌ على المستهلِك: ذلك أنّ الإنسان اليوم يكاد أن يصبح عبداً للآلة المنتجة، عبداً لما تنتجه يداه.

كيف يحرر الإنسان جسده وعقلَه من يديه، مما ينتجه ، أو كيف يتحرر الإنسان من "جسده" المستهلِك المستهلَك ومن "عقله" الوظيفيّ ـ الأداتيّ؟ تلك هي المسألة اليوم.

السؤال 9: هل أحدث الرأسمال والاستهلاك صدمة على الأدب وعلى المبادئ الإنسانية في إبداعكما؟

يانغ ليان: الشاعر محظوظ لأن الشعر أقصى مثل هذه الأسئلة من آفاقه بشكل طبيعي.

أدونيس: أظنّ. ذلك أنّ القراءة نفسها لم تعد إبداعاً. وإنما أصبحت استهلاكاً آخر، استُهْلِك فيه التفكير والتأمل، والبحث والسؤال: صارت القراءة نوعاً من التناول السريع لطعام سريع.

هكذا تضاءل انتشار الإبداع أفقيّاً.

لكن ما يخسره الإبداع، على السطح، يربحه في العمق. وقارىء الإبداع الشعريّ، اليوم على سبيل المثال، أكثر عمقاً من القارىء السابق. إنه مبدعٌ آخر.

* قام الدكتور شوي تشينغ قوه (بسام) بطرح الأسئلة والترجمة بين اللغتين الصينية والعربية